انتشرت خلال الفترة الأخيرة ظاهرة جديدة وغريبة من نوعها وهي هجرة عشرات الآلاف من الإسرائيليين إلى ألمانيا، وهي البلد الذي شهد أكبر محرقة لليهود عرفها التاريخ، ويطلق عليها "الهولوكوست"، وهذه الكلمة أصبحت تستعمل حصرياً لوصف حملات الإبادة الجماعية التي تعرض لها اليهود بالتحديد على يد السلطات الألمانية أثناء هيمنة الحزب النازي بقيادة أدولف هتلر.
الجديد في هذه الظاهرة هو ترك اليهود لفلسطين على الرغم من إيمانهم الكبير بأن أرض فلسطين هي "أرض الميعاد" التي وعدهم بها الرب في التوراة، أما أن الغريب في هذه الظاهرة فيكمن في أن الآلاف منهم يهاجرون إلى ألمانيا التي حرق بها الزعيم النازي "هتلر" أجدادهم، قبل أن يفروا إلى فلسطين، وبل أصبح المهاجرون الإسرائيليون يُطلقون على ألمانيا "الجنة الألمانية".
مجموعه من اليهود الذين هربوا من جحيم ألمانيا النازيه
المهاجرون يشعرون بأن حياتهم مهددة في فلسطين
فنجد مؤخراً أن وكالة الأنباء الفرنسية نشرت تقريراً يرصد نمطاً جديداً من أنماط الهجرة في إسرائيل، حيث قرر الآلاف من اليهود، غالبيتهم من أصول ألمانية، العودة إلى جذورهم في ألمانيا مرة أخرى، والتخلي عن "أرض الميعاد"، كما يعتقدون؛ وذلك بسبب شعورهم بأن حياتهم باتت مهددة في فلسطين.
كما أجرَت الوكالة سلسلة من الأحاديث مع بعض المهاجرين الجدد إلى ألمانيا، أكدوا خلالها أنه بعد سنوات من هجرة الأجداد، بدأ الأحفاد في نوع آخر من الهجرة المضادة، فبدلا من أن يتمسكوا بحلم الأجداد في "أرض الميعاد", بدأوا يعودون مرة أخرى إلى ألمانيا.
ألمانيا تتحول من جحيم اليهود إلى جنتهم
ولرصد هذه الظاهرة تحدثت الوكالة مع عدد من اليهود الذين نفّذوا الهجرة المضادة، فقال "فايس" الذي هاجر من إسرائيل منذ نحو20 عاما عائدا إلى ألمانيا: إن ألمانيا باتت اليوم جنة لأحفاد هؤلاء الذين هاجروا يوما ما من هذا البلد؛ بسبب شعورهم بالخطر.
وتقول "شيري روزين" حفيدة أحد اليهود الذين هربوا من جحيم ألمانيا النازية إلى وعود الاستقرار والحرية والأمن التي تعهَّد مؤسسو دولة إسرائيل بمنحها للمهاجرين: "جدتي كانت في الثالثة من عمرها حين تحتم عليها الهروب من جحيم ألمانيا النازية مع عائلتها إلى الأمن الذي وعدت به العائلات اليهودية في إسرائيل، ولكن الآن من حقي أن أسأل: أين هو هذا الأمن؟".
وأضافت "روزين": "نحن نهرب مرة أخرى، نهرب من العنف في الشرق الأوسط والحروب التي تدخل فيها إسرائيل واحدة بعد الأخرى".
ومنذ انهيار سور برلين عام 1989 باتت ألمانيا وليس إسرائيل هي الوجهة الأولى ليهود شرق أوروبا الذين يفضّلونها عن الهجرة إلى إسرائيل، كما أن الجالية اليهودية في ألمانيا تعد من أكثر الجاليات اليهودية نمواً في العالم، حيث هاجر 200 ألف يهودي تقريباً من دول الاتحاد السوفييتي سابقاً إلى ألمانيا، ووجدوا لهم موطناً جديداً وغنياً يمد لهم يد العون والرعاية ويتبنى تكاليف اندماجهم الباهظة في المجتمع الألماني.
اليهودعانوا فى الحقبه النازيه من القتل والأضطهاد
سر معاملة ألمانيا الطيبة لليهود تعود هذه المعاملة الجيدة التي خصّت بها الحكومة الألمانية يهود شرق أوروبا إلى رغبتها في تعويض المواطنين اليهود؛ نظرا لما عانوه من ملاحقة واضطهاد في الحقبة النازية؛ إذ إن الحكومة الألمانية تنفق منذ عشر سنوات أكثر من 1.8 مليار يورو سنوياً على عملية دمج هؤلاء المهاجرين الجدد الذين وصل عددهم إلى 197 ألف مهاجر، حسب الوكالة.
وعلى الرغم من الحذَر الملحوظ والحساسية التي تتعامل بها النخبة السياسية الألمانية مع القضايا اليهودية، إلا أنه يوجد إقرار سياسي بضرورة الحدّ من الهجرة غير المقيدة ليهود شرق أوروبا إلى ألمانيا.
غضب إسرائيلي من هذه الهجرة
يؤكد الموقف الإسرائيلي الذي يطالب بمساعدة الحكومة الألمانية في تشجيع يهود شرق أوروبا على الهجرة إلى إسرائيل، نظرا للمخاوف الإسرائيلية من تغيير ديموجرافي يصب في صالح الفلسطينين المتواجدين داخل الحدود الإسرائيلية في المستقبل ويغير على هذا النحو من هويتها اليهودية.
ويأتي هذا التطور في ظل الغضب الإسرائيلي الشديد الناتج عن قيام 50 ألف مواطن إسرائيلي بالعودة إلى الدول التي عاشوا فيها سابقا في أوروبا الشرقية, وبحرق جوازات سفرهم، ثم تقديم طلبات هجرة إلى ألمانيا وهو ما دفع أحد ممثلي الجالية اليهودية في ألمانيا إلى التعليق بشكل تهكمي على ذلك قائلا: كل يهود شرق أوروبا يودّون الهجرة إلى الجنة.. الجنة الألمانية وليس إلى إسرائيل.
إسرائيل ستنتهي خلال 20 عاماً
ولعل أخطر ما كشف حول الهجرة المضادة ما قاله المفكر الراحل د.عبد الوهاب الميسيري مشيراً إلى أن نحو 96% من اليهود لا يشعرون بالأمان، بل إن هناك أصواتاً تنادي بالخروج الثاني، أي الخروج من فلسطين -إذ إن الخروج الأول كان من مصر مع نبي الله موسى عليه السلام- وأن إسرائيل ستنتهي في غضون العشرين عاما المقبلة.
وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية أنه في عام 2008 حصل نحو2000 إسرائيلي على الجنسية الألمانية، وتضاعف هذا العدد عام 2009.
الإسرائيليون يعشقون برلين
ووفقا للسفارة الإسرائيلية في ألمانيا يوجد الآن نحو 13 ألف إسرائيلي يعيشون في مدينة برلين وحدها، غالبيتهم أحفاد ليهود ألمان اضطروا إلى الهروب من ألمانيا ليفرّوا بحياتهم من طغيان النازية.
وتؤكد آخر البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاء الإقليمي الخاص ببرلين هذا الانطباع، وتشير إلى أن عدد السياح الإسرائيليين الذين يزورون العاصمة الألمانية تضاعف أكثر من ثلاث مرات منذ عام 2000، وتم العام الماضي تسجيل رقم قد يكون قياسيا من الزوار الإسرائيليين لبرلين بلغ 47321 زائرا، مما جعلهم أكبر مجموعة من الزوار غير الأوروبيين لبرلين بعد المجموعة القادمة من الولايات المتحدة، وهذا رقم كبير قياسا بتعداد دولة إسرائيل الذي يبلغ 5 .7 مليون نسمة فقط.
ويقول "جورج بلوشمان" مدير المركز الثقافي الألماني (معهد جوته) في تل أبيب: إنه في تل أبيب ذاتها يمكن للمرء أن يشعر بحمى برلين تجتاح كل ركن بالمدينة، بل إن بعض المتاجر تطلق على نفسها أسماء تنتمي إلى برلين مثل "صالون برلين" بقلب مدينة تل أبيب ويبيع ملابس مستعملة في جو يذكّر بحي "كرويزبرج" ببرلين والذي يسود فيه اتجاه مغاير لما هو سائد في العاصمة.
ويرى "آفي أفروني ليفي"، مواطن إسرائيلي انتقل عام 1994 إلى برلين ووقع في حبها على الفور: إن برلين شرعت في خلق بداية جديدة لنفسها، كما أنها مدينة منفتحة وغير جامدة، وهي لا تشبه بقية أنحاء ألمانيا نسبيا وإنما تشبه تل أبيب بدرجة أكبر.
شغف الأسرائيلين ببرلين كنوع من العلااج
وأشار "أفروني ليفي" إلى أن الشعور المتزايد بالإعجاب من جانب الإسرائيليين تجاه برلين يعد جزءا من عملية العلاج، ولا يتعلق ذلك بإدخال تحسينات أو إثارة الجراح القديمة ولكن الأمر يتعلق بمعرفة الجانب الآخر، وأضاف: لعدة سنوات كان الألمان يُنظر إليهم كمجرمين واليهود كضحايا، ولكن الشباب الإسرائيليين الآن أصبحوا ينتمون إلى جيل جديد لديه مفهوم مغاير، ويريد أن يكتشف "طبيعة الألمان"، وبالتالي فإن علاقة الحب هذه مع برلين تعدّ نوعاً من العلاج لكلا الجانبين، غير أنه مع كل هذا الحماس فإن الطريق إلى برلين ليس مفروشا بالورود بالنسبة لكثير من الإسرائيليين، فكثير منهم من أحفاد الناجين من المحرقة، ومعظمهم يربطون بين اللغة الألمانية وبين خطب الزعيم النازي أدولف هتلر الحافلة بعبارات الكراهية.
والسؤال الآن: هل يمكن أن يحدث تغير ديموجرافي داخل إسرائيل نتيجة الهجرة المضادة كما تنبأ "د.المسيري"؟، هل يمكن أن يأتي يوم بعد 20 عاماً ونجد عدد الفلسطينيين في الداخل الإسرائيلي في ازدياد وعدد الإسرائيليين في تناقص؟، هل يمكن أن تحلّ الهجرة المضادة مشكلة الشرق الأوسط دون الحاجة إلى سلاح؟