المطمئن بالله

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى ثقافى - اجتماعى - متنوع يهم كل افراد الاسرة


    التكثيف البصري في سورة العنكبوت

    المطمئن بالله
    المطمئن بالله
    Admin


    عدد المساهمات : 226
    تاريخ التسجيل : 02/06/2010

    التكثيف البصري في سورة العنكبوت  Empty التكثيف البصري في سورة العنكبوت

    مُساهمة  المطمئن بالله الأربعاء يناير 19, 2011 7:21 pm

    برغم ما تتميَّز به كلُّ سورةٍ من سُوَرِ القرآن الكريم من سِماتٍ أسلوبيَّة وموضوعيَّة، فإنَّ سورة (العنكبوت) قد جمعَتْ بين أكثر من سِمَة تميِّزها وتُبرِزها عن سُوَرِ القرآن الأخرى، ولأنَّ المقام لا يتَّسِع لذكر كلِّ التفصيلات من كلِّ السِّمات، سنُوجِز المقال، ونُشِير إلى السِّمَة الأساسيَّة التي يقوم عليها هذا العرض، وهو التصوير الفني، أو التكثيف البصري في السورة في مِساحات ضيِّقة.

    ونقصد به التصوير الانتِقالي بين العَوالِم المختَلِفة، وإيجاد مَفاتِيح أو محفِّزات الحَكْيِ بما يَبعَث عنصر التشويق، ويَسِير في الوقت نفسه ضمن منظومة زمنيَّة لها قوانينها وتُعرَف في الكتابات الأدبيَّة باسم (الحبْكة).

    كما أنَّ هذا التناوُل لا يمسُّ بأيِّ حالٍ من الأحوال علم التفسير، وهو عمل أئمَّة الأمَّة من عُلَماء القرآن وغيرهم، ولا أعدُّ نفسي إلا طالبًا كأقل طالب علم لديهم، لكن هذا التناوُل هو لفتٌ لنظر القارئ لزاوية أخرى أثناءَ قراءة هذه السورة ومُحاوَلة لتدبُّر آي السُّورَة حسب تقسيمها إلى مجموعاتٍ متَّصلة كما يلي:
    صورة (1) الافتتاحيَّة (صورتان من زمنَيْن):
    ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [العنكبوت: 10 - 13].

    يفتَتِح - تعالى - السُّورة بالوقوف على حقيقة الإيمان والكفر، ومن خِلاله يقف على صُورة البداية والختام معًا دون الدُّخول في التفصيلات بينهما، ويستمرُّ الانتِقال من الموقف الدنيويِّ القديم للموقف الأخرويِّ المستقبليِّ على نحوٍ تَضِيع فيه الحدود إلا لذي النُّهَى في استِبصار طريقة العرض؛ فموقف الدنيا ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ... وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴾ [العنكبوت: 10 - 11] يَعقُبه موقف الآخِرة، وهو الصُّورة الختاميَّة أو النتيجة، ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ...﴾ [العنكبوت: 12] دُون التمهيد لهذا الانتِقال؛ ليَعُود مرَّة أخرى في ذكر مَواقِف الدنيا من بداية الرسالة وبداية وجود المؤمن والكافر في الموقف التالي، ويكون هذا في سِياق تأييد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومطالبته بمحاجَجَة الكافرين به.

    صورة (2) (قصة نوح والتعريج على قصة إبراهيم - عليهما السلام -):
    ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ * وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: 14 - 17].

    ويتمُّ من خلالها عرض قصتي نوح وإبراهيم - عليهما السلام - وكأنَّهما سِياق مُنفصِل دون ظهور مَلْمَحٍ لرَبْطٍ موضوعيٍّ مع أحداث القيامة أو الاختِبار الذي يُظهِر معدن المسلم والكافر.

    صورة (3) (النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومشركي مكَّة):

    ﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ [العنكبوت: 18].

    وفَجأة يتوقَّف السرد التاريخي للأحداث من نوحٍ وحتى إبراهيم - عليهما السلام - لتجد نفسَك مع النبيِّ الكريم في مُحاجَجَةٍ مع مشركيْ مكة دون أن تَشعُر أنَّك بينهم، أو أنَّ الله - تعالى - يُوجِّه نبيَّه للمُحاجَجة معهم، إلا لو تدبَّرت قليلاً في الآيات، ستَجِد أنَّ السِّياق مختلف والكلام مُوجَّه لقومٍ آخَرين غير قوم إبراهيم، وحتى كلام سيِّدنا إبراهيم أصبَح مقطوعًا بصورةٍ جديدةٍ دخَلَتْ إلى النصِّ لم تكن موجودة من قبل، وفي هذا يَقُول الإمام البقاعي: "ولما كان التقدير: فإن تصدِّقوا فهو حظُّكم في الدنيا والآخِرة، عطف عليه قوله: ﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا﴾، والذي دلَّنا على هذا المحذوف هذه الواو العاطفة على غير معطوف معروف ﴿فَقَدْ﴾؛ أي: فيكفيكم في الوعظ والتهديد معرفتكم بأنه ﴿كَذَّبَ أُمَمٌ﴾ في الأزمان الكائنة من قبلكم"[1].

    وبعد أن تَندَمِج مع صورة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين مشركي مكَّة، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [العنكبوت: 19 - 23]، تنتَقِل الآيات لوصف صورة أخرى.

    صورة (4) (إبراهيم عليه السلام):
    ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [العنكبوت: 24 - 25].

    وبعد ذلك تَعُود الصورة لتجد نفسك مع قوم إبراهيم - عليه السلام - دون الإشارة لذلك أيضًا في ثَنايا السَّرْدِ السابق، وكأنَّ قصَّة إبراهيم - عليه السلام - السابِقة لم تنتهِ، ولم يحدث انقِطاع من الأساس بخطِّ سردي مختَلِف في الزمن، ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا... ﴾ [العنكبوت: 24].
    وتَكمُن الروعة في اتِّصال الصورة بالفاء العاطفة ﴿فَمَا كَانَ... ﴾ وكأنَّ الصورة السابقة لم يقطعها شيء.

    ثم في وسط هذا الجِدال من قوم إبراهيم - عليه السلام - ومُحاجَجته يدخل لوطٌ - عليه السلام - ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ... ﴾ ولم يكن ظاهرًا من بداية القصَّة، ويظهر للمحة بسيطة ويؤدِّي وظيفة بسيطة في الحدث، نتبيَّن بعدها أنَّ هذا الدَّور ليس هو الدَّور الأساس الذي سيَلعَبه في بقيَّة الحدث، وهو إيمانه بسيِّدنا إبراهيم - عليه السلام - في الوقت الذي كذَّبه الآخَرون، بل إنَّ دوره نفسه هنا هو عامِل محفِّز يعمَل لإلقاء الضوء على هذه الشخصيَّة حال ظهورها مرَّة أخرى.

    وتكتَمِل بقيَّة الآيَة بإتمام كلام إبراهيم - عليه السلام -: ﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [العنكبوت: 26]، ليَتِمَّ السياق وقصَّة سيِّدنا إبراهيم، ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [العنكبوت: 27].

    وقيل أن الآيات لرصد أحداث قصَّة لوط - عليه السلام - مع قومِه يترك عنصرًا تحفيزيًّا آخَر؛ وهو أنَّ الله - تعالى - سيَهَبه ذريَّة صالحة يكون بدايتها إسحاق - عليه السلام - ويكون لهذه الذريَّة قصَّة وظهور تامٌّ في سِياق آخَر مُنتَظر.

    صورة (5) (لوط عليه السلام):
    ويأتي سِياق لوط - عليه السلام - مُترابِطًا مع سابِقه الذي تَمَّ فيه الإلماح لهذه الشخصيَّة، ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت: 28]، من خلال عنصر التحفيز وهو شخصيَّة لوط - عليه السلام - التي بدأ التمهيد بها في الصورة السابقة على نحوٍ خاطِف، ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾.

    تداخُل صورتين:
    ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ [العنكبوت: 28 - 32].

    ويعود العنصر السابق وهو عنصر التشويق ليعمَل في فتح خطٍّ سردي جديد غير مُكتَمِل من خِلال البشرى بالذريَّة النبويَّة التي يبدؤها إسحاق - عليه السلام - لتتداخَل هنا سِياقات قصتي لوط وإبراهيم - عليهما السلام - حيث تَتداخَل الصُّوَر حسب ما يفتَحه السَّرد من ذكْر أحداث؛ لنُتابِع موقفًا من هنا وموقفًا من هناك.

    ويَكتَمِل انبهارُك بالنظْم البَدِيع للكتاب العزيز عندما يستهلُّ - تعالى - هذه الصورة بقوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ... ﴾ [العنكبوت: 31]، وكأنَّها قصَّة أخرى جديدة يُبقِي الله - تعالى - الترابُط بين قصَّتي إبراهيم ولوط - عليهما السلام - قائمًا من خِلال البشارة في أثناء مهمَّة الانتِقام من قوم لوطٍ - عليه السلام -: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى... ﴾ [العنكبوت: 31].

    وما أنْ تَمَّ الحوار بين الملائكة وإبراهيم - عليه السلام - بمصير قوم لوطٍ وما ينتَظِرهم من مُؤمِنين ومُكَذِّبين نجد أنفسنا داخِل موقف الخسف بقرية لوط - عليه السلام - التي كان السِّياق يحدِّثنا عنها منذ قليل: ﴿وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: 33 - 35].

    صورة (6) (مدين) والتاريخ الحاضر الغائب:
    ويُعَرِّج - تعالى - على ذكْر قصَّة قوم شعيب بترك بعض قصص الأقوام بين قوم لوط وقوم شعيب - عليهما السلام - لكنَّ هذا الغِياب أشار إليه - تعالى - فجعَلَه حاضِرًا من خِلال ذكْر الاعتِبار من قصَّة قوم لوط لكلِّ مَن جاء بعده؛ ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: 35]، ثم ذكَر - تعالى - بعد قصَّة مدين أنَّ هذه الأُمَم هي عاد وثمود بقوله - تعالى -: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾ [العنكبوت: 38] على لسان شعيب - عليه السلام - فأصبح سِياق الاعتِبار متَّصِلاً من لوط وحتى شعيب - عليهما السلام.

    وإذا كُنَّا قد توقَّفنا في بداية النصِّ عند قصَّة نوح - عليه السلام - فإن مَعالِم الأحداث المسكوت عنها تبدأ في الظُّهور بعلامات معيَّنة ما قبل إبراهيم - عليه السلام - وما بعده دون الظهور بأحداثها، ويتمُّ ذلك على نحوٍ غير منتظِم، ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾ [العنكبوت: 38].

    عود على بدء:
    لكن البديع هو أنَّ هذا السِّياق يأتي مُتداخِلاً مع سِياق الحَكْيِ للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومن ثَمَّ للكافِرين على لسانه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليتابع السياق القرآني على ما بدأ به من حقيقة الإيمان والكفر؛ حيث يختم - تعالى – السورة: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 68 - 69].

    في انتِقال مستمرٍّ بين سِياق الخلق الأوَّل ونِعَم الله على عباده وبين سِياق الآخرة والحساب.

    ♦ ♦ بالفعل أنا عاجِز عن استِيعاب هذا القَدر من الإبداع البصري الذي رسمَتْه سورة العنكبوت، ولا يَكفِي مَقالٌ كهذا في الإلمام بكلِّ جوانبه، إلا أنِّي حاولت - قدر الإمكان - أن آخُذ بطرفٍ من كلِّ لفتة، والأَحْرَى أن تُفرَد لها دراسة كامِلة، وقد هالَنِي ما توصَّلت إليه عند تلاوتها؛ كمٌّ مُكثَّف من الأحداث في مِساحة ضيِّقة جدًّا، وباستِخدام حبكة شديدة السبك تجمع الأحداث على نحوٍ خفيٍّ مكشوف معًا، يختَلِط فيها السِّياق الدعوي مع السِّياق السردي.

    وأسأل الله أن يُسعِفني بالوقت لعمل هذه الدِّراسة، أو أن يفتح على أيٍّ من إخواني بإتمامها؛ فالغَرَض هو تدبُّر آي الذكر، وكشف جماليَّاته لكلِّ محبٍّ للقرآن الكريم.

    ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 41 - 42].
    ـــــــــ
    [1] البقاعي: "نظم الدُّرَر في تناسب الآيات والسُّوَر".


      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء مايو 14, 2024 11:43 am